قلب صغير لا يحتمل
فى تمام التاسعة إلا الربع ، فى إحدى ليالى تموز من عام 1984 التقت بتريشيا طبيبها المعالج كلود عند ناصية "لوكور فابل" بشارع "لاماتيرنال" بالعاصمة البلجيكية ، فابتسمت له وصافحته ، ثم سألته أن يصعد معها إلى حيث تقيم بتريشيا مع ابنتها المعاقة ذات الإثنى عشر ربيعاً بالطابق الرابع بعقار "لافيسي سال" ليتناول معهما كوباً من النعناع المحلى بالعسل ، فوافق الطبيب وصعد معها ،وما كانت رغبة الدكتور إلا فى رؤية كلوديا ابنتها ليطمئن عليها ويسامرها قليلاً قبل العودة إلى منزله بعد يوم مليئ بالعمل الشاق.
كان الدكتور كلود أستاذ الأمراض النفسية والعصبية فى مستشفى "لاسونتيه بريميرمون" بوسط المدينة وكانت بتريشيا وأمها يتعالجان عند دكتور كلود من آثار الإدمان .
إذ أن بتريشيا الممرضة الجميلة ذات الشعر الأسمر الحريرى نادر الوجود فى بلاد لا تشرق عليها الشمس ،ابنة التاسعة والثلاثين ، بعد وفاة زوجها برصاص أحد الجنود الفرنسيين القابعين على الحدود بين فرنسا وبلجيكا وذلك أثناء مطاردة قوات حرس الحدود الفرنسية لمهربى المخدرات من البلجيكيين وغيرهم إلى داخل الحدود الفرنسية ،عكفت بتريشيا على تعاطى المخدرات والكحوليات حتى خارت قوتها ونحل جسدها وتساقط شعرها واغبر وجهها ، والغريب أن صديق زوجها هو من كان يمدها بهذه السموم مستوفياً فى المقابل من عرضها وأموالها أولاً بأول .
وكانت بتريشيا -أكثر من مرة - تدلف إلى شقتها مسرعة متلهفة تصرخ من الألم والوجع والصداع الذى يكاد يدمر أعصابها ، وما إن تأخذ تلك الحبوب حتى تبدأ فى الهدوء والإسترخاء ، و رأتها ابنتها خلسة وبدأت فى تقليدها أثناء غيابها ،حيث كانت بتريشيا تترك ابنتها طوال اليوم فى كرسيها المتحرك وحيدة تلفها الكآبة من كل جانب ، حيث لا أحد يلاعبها أو يسليها أو يهتم بها على الإطلاق فوجدت فى المخدرات بغيتها . بدأت ذلك وهى فى العاشرة من عمرها وبمرور الوقت بدأت أمها تلاحظ تناقص كميات المخدر باستمرار فراقبت ابنتها وعلمت أنها هى التى تأخذ الحبوب.
ومنذ تلك اللحظة- وبدافع الخشية على ابنتها- بدأت بتريشيا رحلة البحث عن علاج لها ولابنتها ولجأت إلى الدكتور كلود الذى يعمل معها بالمستشفى ذاتها الذى وافق على الفور على مساعدتها ، وبدأ دورة العلاج لكلتيهما ، لكن بتريشيا -لعزيمتها- بدأت تتعافى أسرع من ابنتها.
ومما كان يصعب الأمر على الدكتور كلود أن كلوديا كانت لا ترغب فى العلاج وأمها لم تتعود أن ترغمها على شيئ، وكانت رسالة الدكتور كلود لنيل درجة الدكتورة عن "كيفية استبدال محفزات التعاطى مهما قويت بمحفزات للتعافى وإن قلت " وكان ذلك ينطبق على حالة كلوديا . بدأ الدكتور فى تسجيل بياناتها وتصوير تحسنها الإسبوعى واشترى لها محل ورد بدأت تجد فيه نفسها ، بدأ د.كلود يحقق تقدما ،خاصة بعدما وجدت فيه الفتاة الصغيرة الحنان والاهتمام اللذين افتقدتهما منذ مات أبوها. حدد ميعاداً لمناقشة رسالته وبالفعل نال درجة الدكتوراة التى تمناها لكن كلوديا لم تره بعدها ولمدة ثلاثة أشهر ، قضاها مع صديقته فى الريف يحتفلان بمناسبة حصوله على درجة الدكتوراة.
تركت كلوديا محل الورد وعادت إلى شقتها تغلق على نفسها باب غرفتها حيث الوحدة و الكآبة من جديد ، تخبط وتكسر وتبكى فى صمت تارة وتنتحب بصوت عال تارة أخرى ،بيدها صورة للدكتور كلود ترميها على وجهها على السرير مرة وهى واجدة مغتاظة ثم تعيد ضمها إلى صدرها مرة أخرى وتقبلها بدموع غزيرة حارة كالمحبة الولهة . صعد كلود مع بتريشيا وهى تحكى له كيف أثر غيابه فى نفسية كلوديا ، وكيف أنها تخشى عليها أن تنتكس ، وكان كلود يطمئنها أثناء صعودهما السلالم ، ولكن بتريشيا لم يزد ردها على ابتسامة باهتة .
حين وصلا إلى باب الشقة ، أدارت بتريشيا المفتاح و دفعت الباب المثقل بكل قوتها لتقع عيناها أول ما تقع على ابنتها ملقاة بجوار كرسيها المقلوب وموسى حادة إلى جانب يدها اليمنى ، والأرضية من حولها ملطخة بدماء أقسمت الأرض على ألا تشرب منها شيئاً مهما طال الزمن ومهما اشمئز من اشمئز لتقول للدكتور كلود وغيره بلهجة صارمة:" أيها البروفيسور العظيم إذا لم تستطع أن تكون على قدر المسؤولية تجاه قلب تحببه فيك ، فمن الأشرف لك ، ثم من الأشرف لك ، ألا تعلقه بك من البداية" .
إرسال تعليق