"رضـا"
قصة قصيرة
بقلم: عبد الغني عبده
* * *
خمس زيجات حصدت منها؛ أربع مرات طلاق؛ ونصف دستة من الأولاد؛ أصغرهم توأم غير متماثل لبنت وولد؛ ولقب: أرملة...
تجربة لم تترك آثارها على ملامحي فقط؛ بل خَرَجْتُ منها إنسانة مختلفة تماماً... وعندما تتراءى السنوات الثمانية الماضية؛ في ذاكرتي؛ أُسْرِعُ إلى المرآة؛ فتصدمني تجاعيد (الجبهة وحول الشفتين وخلال الذقن) تكشف عن وجه ربما أوشك على مغادرة الأربعين!!... كيف ذلك؟ ومتى حدث؛ وأنا لم أتجاوز الثامنة والعشرين سوى بشهرين؟! أسأل فتتداعى الذكريات....
قبل أن أكمل العشرين كان زواجي الأول الذي لم يدم ليلتين فالعريس لا علاقة له بدنيا الرجال إلا مظهر خارجي!!
مطلقة وعذراء!! من ذاق منكم طعم "القهر"؟ إنه ليس مراً فحسب؛ بل منقوع فوق ذلك في حوض من طين البرك بالت فيه كلاب وقطط؛ وماتت فيه فئران وهوام...
رغم أنه هو الذي كان يستحق الإحساس بكل خزي لا أدري كيف تسرب إليَّ القهر الذي قارب العار...
حذار أن تستسلموا للمشاعر السلبية من هذا النوع إنها أخطر من الوقوع في "العبودية" بل هي تسلمكم إلى ما يشبهها... هي أسلمتني بالفعل – كجارية - إلى "الرجل الثاني".
كم تمنيت أن أنساه؛ ولكن هيهات ها هي ابنته؛ التي لم تره؛ تضعه دائما (بشحمه الكثيف وكرشه المتدلي وزوجاته الثلاثة وذريته التي لا تحصى منهن ولسانه الطويل كعمره الخمسيني... وبخله المقيت كماله الذي لا يشبع من مراكمته) في بؤرة الذاكرة ينز منها كجرح غائر يأبى الالتئام...
لم يكن الانعتاق منه نهاية لثلاث سنوات هن أمر ما عشت... لأنني أخذت أتعاطى المر بعدها لأحيل حياتي إلى مستحيل مع الرجل الوحيد الذي أحبني وربما ما يزال؛ وقَبِل الزواج بي – ثالثاً - رغم أن أهلي سبق ورفضوه أولاً...
بقدر ما يكون الحب كبيراً تكون الحساسية... هو مندفع كشلال جارف ... يحتويني أنا والرضيعة التي ليست ابنته، وأنا مكبلة في أغلال الماضي أعامله بجفاء وأتوجس من طيبته وأتجاهل مشاعره... كم كان حنوناً وكم كنت قاسية... كان يرغب في أن أعامله كطفل مدلل – هو كان يدللني كطفلة – وأنا منكسرة الروح تائهة المشاعر أو لعلها ماتت!!... هل كان علينا أن نتأنى فترة قبل الارتباط؟ لماذا أدرك الآن مشاعره وأحس – بعد فوات الأوان – بحبه الكبير؟!! ورغم أنني لم أنجب منه إلا أنني عندما أتذكر – وكثيراً ما يحدث ذلك - لمسات أنامله الرقيقة على جسمي تسري فيَّ قشعريرة ويدب الدفء في نفسي وكأنني في أحضانه... وعندما أصادف المرآة وأنا على هذه الحالة أطالع فيها وجهاً نضراً ووجنات بنت الثامنة عشرة.
كل هذا سرعان ما يتبخر كما تبخرت حياتنا معاً... كان عنيفاً في حبه وكذلك في إحساسه بكرامته التي رآها دماً مهراقاً على مذبح تجاهلي؛ وكان انسحابه مفاجئاً غير أنه لم يذهب دون تفسير.... أنت لا تحبينني وتلك حريتك.. أما أنا فأحتقر نفسي لو عشت مع أحدٍ لا يحبني قالها متحسراً وانصرف.
عندما تطلق الواحدة منا مرة تصبح عبئاً كبيراً على أهلها. أما عندما تطلق من ثلاثة رجال تتحول إلى كم مهمل لا تزيد أهميتها عن أي "روبابيكيا" يضطروا للاحتفاظ بها في أقذر أماكنهم ويكونوا على استعداد للتخلص منها حتى بلا ثمن. وهكذا تم تسليمي للرابع الذي كان قد خرج من السجن ولا عمل لديه سوى البلطجة التي سرعان ما أوصلته لسجن جديد.. مرات ومرات يخرج ويعود وأنا أنجب منه ولدين (حملت في الثاني بعد أن بلغ الأول أربعين يوماً فقط) وأضطر للخروج إلى الشارع لألتمس رزقاً لنا نحن الأربعة...
في البداية كان الأمر غريباً علي وثقيلاً على قلبي ولكن "كتر اللطم يعلم البكا"... لم يعد البيع والشراء والمكسب والخسارة طريقاً للعيش فقط بل طريقة للإحساس بالتحرر وامتلاك القرار...
كان – رغم بلطجته - يخاف من إغضابي لأنه يدرك ما أنا فيه من قدرة على التخلي عنه في أية لحظة... وهو ما حدث عندما أراد أن يبعدني عن شريكي في التجارة لشكه في علاقة تجمعني به...
ورغم أن علاقتي بهذا الشريك لم تتخطى حدود العمل إلا أنها انتهت بالزواج بعد أن طلقني القاضي من البلطجي وهو في السجن.
لم يمنع الزواج من استمرار حدود الشراكة بيننا وإحساسي بالقوة والتحرر والاستقلال؛ وهذا ما يساعدني الآن على الاستمرار في الحياة بعد أن اختطف الموت رجلي الأخير (الذي لم يأسرني بحبه ولم يقهرني بصلفه ولم أضعف أمام احتياجي إليه) دون أن يرى من أولاده الثلاثة إلا الكبير....
ما يعزيني ويترك نفسي "راضية"... تلك الشخصية الجديدة التي أنا عليها الآن... ربما وُضِعْتُ في هذه الاختبارات لأتمكن من تربية هؤلاء الصغار (أماً وأباً).
- تمت –
الرياض في 18 يوليو 2011م
إرسال تعليق